الفلسفة المنفتحة عند غاستون باشلار ونظرته الى اسلوب التربية والتعليم

الفلسفة المنفتحة

بسم الله الذي لا اله الا هو الحي القيوم ، والصلاة والسلام على النبي محمد الذي أرسل رحمة للعالمين، اما بعد ….
هذا المقال ان شاء الله سيكون بداية لسلسلة من المقالات التي سنسلط الضوء من خلالها كل يوم على شخصية من الشخصيات المؤثر في مسيرة الابداع العلمي الانساني في مختلف المجالات ، وبطل هذا المقال اليوم سيكون العالم  الفيلسوف الاديب غاستون باشلار Gaston Bachelard : فمن هو اذن غاستون باشلار ؟ وكيف عاش غاستون باشلار مسيرته الحياتية والعلمية  ؟ وما الذي اضافه الى ساحة الابداع العلمي الانساني وخاصة في ميدان التربية والتعليم ؟ وما هي انجازاته الخالدة ؟
وقبل الشروع في الاجابة على هذه التساؤلات ، سنحاول جمع بعض النقاط العامة حول شخصية الفيلسوف غاستون باشلار الفذ في الفقرة التالية، وبعدها مباشر سنواصل التفصيل في حياة باشلار العلمية والفلسفية .

يعتبر غاستون باشلار Gaston Bachelard ( 1884- 1962م) من اهم الفلاسفة الفرنسيين الذين انصبّت كل اهتماماتهم في محاولة تأسيس فلسفة جديدة للعلوم الحقة ، وخاصة ان كافة العلوم في زمن باشلار كانت تمر من ازمة خانقة كان سبب افرازها : محاولة بحث العلماء على مشاكل جديدة بأساليب ومناهج قديمة والذي انتهى بالعجز والفشل وكأن العلوم انتهت صلاحيتها ، ويمكن التعليل على ذلك بنموذج ازمة 1927م التي حيرت كل رواد المعرفة سواء الاقتصاديون منهم او غيرهم.
فتفطن غاستون باشلار الى ضرورة تطوير الفكر المنهجي للعلوم لتجاوز تلك الازمة ، من خلال خلق ابستمولوجيا جديد قادرة على مواكبة التطور المعرفي الذي تعرفه البشرية ، ووضع اسس جديدة للتفكير المنهجي العلمي حتى يتحقق التطور للعلوم من تلقاء نفسها وتجاوز كل المشاكل المستقبلية دون ازمات في المنهج المتبع .

فوجه غاستون باشلار انتقادا لاذعا للنزعتين التجريبية (التي تؤمن بان لا يمكن انتاج المعرفة الا عن طريق الحواس والتجربة) والعقلانية (التي تعتبر العقل المصدر الوحيد والاوحد للمعرفة) اللتين كانتا مهيمنتين على الساحة العلمية في تلك الفترة ، ورفض رفضا باتا بان يكون العقل وحده مصدر المعرفة العلمية او اعتبار العقل مكتفيا بذاته في انتاج النظرية العلمية باي شكل من الاشكال، او ان يكتفي الباحث عن المعرفة على نتائج التجربة فقط وان يكون منطق التجريبيين هو المعيار المتحكم في معطيات نتائج التجربة.
وعلى هذا الاساس اسس غاستون باشلار فلسفته للعلوم ، واقر على ضرورة بناء المعرفة على مناهج علمية منفتحة على كل الاتجاهات الفلسفية المختلفة ، مؤسسا بذلك ما يسمى بالعقلانية المنفتحة التي تقيم حوارا وعلاقة بين العقل والتجربة دون التعصب لصالح اي طرف من الطرفين.

وهذه الفلسفة المنفتحة التي اشار اليها غاستون باشلار تعتبر فلسفة وسطية غير منحازة لأي اتجاه فلسفي متعصب لأفكاره وتوجهاته ، وقد اطلق غاستون باشلار على فلسفته هاته مجموعة من التسميات من بينها : العقلانية التطبيقية … لأنها جامعة بين العقل والتجربة وحققت التكامل بينهما .
وبما ان المعرفة العلمية تخضع لتجارب طبيعية مع مرور الزمان ، فذلك يجعل حقيقة مصداقيتها عرضة للتشكيك والتصحيح ، لذلك حسب غاستون باشلار فمن الحماقة اعتبار ان الحقيقة العلمية هي حقيقة مطلقة ، وانما الحقيقة قابلة للتصحيح او التكذيب في اي وقت وحين طالما ان العقل البشري يلاحظ ويكتشف حقائق جديدة بعد التأكد من مصداقيتها عبر التجريب ، فالحقيقة السابقة المتنافية لما تم اثباته حديثا لا وجود لها ، وحتى تتحقق هذه الحرية في التفكير والانتاج المعرفي لدى الانسان لابد من التخلص من العصبية المذهبية كيفما كانت ، وان يتحلى الباحث بالبصيرة والانفتاح على كل المناهج الفكرية الفلسفية  ، وان يحاول خلق حوار تكاملي مع مذاهب الفكر العلمي عامة ، لان ذلك وحده يمكّن من تجاوز اي ازمات قد تواجه المنهج العلمي مستقبلا .

ولا يجب ان نغفل على الشق الثاني من ابداعات غاستون باشلار الادبية والشعرية الغنية بالرقي الادبي والابداع الفني الجمالي ، وخاصة انغماسه في التخيل الشعري لان ذلك حسب باشلار يقرب المرء من الفلسفة ويمنح العقل حرية لا مثيل لها للتفكر والتدبر والابداع والابتكار .

موجز حياة غاستون باشلار :

ولد العالم والفيلسوف غاستون باشلار عام 1884م في بلدة Bar-sur-Aube الفرنسية ، في وسط اسرة متوسطة ربّ بيتها رجل اسكافي فقير.
كان غاستون باشلار منذ نعومة اظافره مولوع بالمطالعة وطرح السؤال ، وبسبب فقر اسرته اضطر باشلار الموازنة بين العمل والدراسة ، فلما بلغ السلك الجامعي رشح نفسه ليكون موظفا للبريد على اساس مواصلة حصصه الجامعية ليلا، واستمر على ذلك المنوال الى ان نجح في الحصول على شهادة ليسانس في الرياضيات عام 1912م.

لكن من سوء حظ غاستون باشلار تزامن حصوله على الشهادة الجامعية اندلاع الحرب العالمية الاولى، الوضع الذي جعله ينضم مضطرا الى الجيش الفرنسي كجدي حامل لبندقيته مدافع على وطنه من الاعداء ، فقضى باشلار حوالي أربع سنوات في كنف الكتيبة العسكرية ، ورأ ما يكفي من همجية الحرب التي زرعت في نفسه الحنين الى الاخلاق والرقي بالانسانية التي اصبحت في زمن الحرب مجرد امنيات واحلام يصعب تحقيقها.
وبعد قضاء غاستون باشلار لواجبه اتجاه وطنه ، تفرغ لإتمام دراسته الجامعية فتمكن من نيل شهادة الدكتوراه سنة 1927م التي وضعها بعنوان ” الانتشار الحراري في الأجسام الصلبة La propagation thermique dans les solides ” ، ثم تلاها انجازه لأطروحة ثانية بعنوان ” بحث في المعرفة التقريبية Essai sur la connaissance approchée ” ، وكانت هاتين الاطروحتين بمثابة بداية غاستون باشلار الدفاع عن نظريته ووضع الاسس الاساسية لفلسفته التي سميت بـ ” الفلسفة المنفتحة ” .
وبعدها اشتغل منصب استاذ للفلسفة بجامعة Dijon الفرنسية عام 1930م ، ثم استاذا في قسم التاريخ وفلسفة العلوم بجامعة Sorbonne الى ان تقاعد سنة 1945م .
في عام 1955م عين غاستون باشلار كمشرف على معهد تاريخ العلوم Institut d’histoire des sciences.
وفي سنة 1961م توج باشلار بالجائزة القومية الكبرى للآداب، لتكون أخر فخر لغاستون باشلار في حياته قبل ان تأخذه المنية عام 1962م. 

اما بخصوص حياة غاستون باشلار العائلية ، فقد تزوج باشلار وهو في عز شبابه ، لكن من سوء حظه توفية زوجته مخلفة وراءها طفلة صغيرة ، ليس لها سوى والدها الشغوف بمواجهة الصعاب وتحديات الحياة، فرعاها باشلار احسن رعاية ووفر لها كل ما تحتاجه من حنان وابوة ، فتلقت من ابيها العلم والثقافة الامر الذي مكنها من تولى منصب استاذة في جامعة Sorbonne.

مؤلفات غاستون باشلار:

شخصية غاستون باشلار المنفتحة على كل العلوم سواء الدقيقة منها او الادبية جعل هذا العالم الفيلسوف الفذ يبدع في شتى ميادين المعرفة العلمية والادبية وخلف لنا تراثا عمليا مهما يمكن سرده في النقاط الاتية :
– كتاب ” التعددية المحكمة في الكيمياء الحديثة “.
– كتاب ” تكوين العقل العلمي “.
– كتاب ” الفكر العلمي الجديد “.
– كتاب ” المادية العقلانية “.
– كتاب ” النار في التحليل النفسي “.
– كتاب ” شاعرية احلام اليقظة “.
– كتاب ” حدس اللحظة “.
– كتاب ” الماء والاحلام “.
– كتاب ” لهب شمعة ” .
– كتاب ” جدلية الزمن “.
– كتاب ” العقلانية والتطبيقية ” …. وغيرها العديد من المؤلفات العلمية والادبية والشعرية .

واهم ما يميز مؤلفات غاستون باشلار العلمية ، هو تأسيسه لحقل مفاهيمي جديد ساعد من خلاله العلوم على الانفتاح على كل ماله علاقة بالإنسان دون انقياد او تعصب .
والخيال عند باشلار انجع وسيلة لتدريب العقل على التحرر والخروج من قوقعة التقليد والتعصب ، لذلك وجد باشلار في الانتاج الادبي وخاصة الشعري مراده ومبتغاه لبلوغ التوازن المنهجي والمعرفي عند انتقاده لمناهج العلوم الاخرى.
مؤسس كل ذلك على قاعدة اساسية مفادها ان لا وجود لحقيقة مطلقة ، وانما التقدم وتجاوز الازمات يتم عن طريق التفتح وقبول اخطاء الاولين مهما بلغوا من عبقرية، وطالما روح الانسان لا تزال متشبثة بالحياة فحقيقة الاشياء تبقى نسبية ومتجددة بتجدد المناهج العلمية وتطورها.

التربية والتعليم عند غاستون باشلار ( العقلانية المعلِّمة ):

قبل تسليط الضوء على فلسفة التربية والتعليم عند غاستون باشلار، يجب توضيح مفهومين اساسيين :
– العقلانية : مفهوم العقلانية معناه العملية التي يقوم بها العقل لإنتاج المعرفة و ادراك معاني الاشياء بمعنى ادق، وهو معنى يتشارك فيه كل الفلاسفة لأنه اساس تفلسفهم وتفكرهم في امور الحياة، ناهيك على المعنى الاخر الذي يتبناه رواد الاتجاه العقلاني الذي يعطي كل الاولوية لعمل العقل في الانتاج المعرفي بحجة ان الحواس لا يمكنها ادراك كل شيء يحيطها ، بعكس العقل الذي له القدرة على اختراق الآفاق والسفر عبر الازمنة.
– التعلم : اما مفهوم التعلم فهو يطلق على كل عملية تمكن الفرد على معرفة ما يجهله من معارف وعلوم وتجارب ، لكن هذا لا يدل على ان التعلم قد يمنح لصاحبه التقدم ، وانما يحمل كل الاحتمالات ، وذلك يتحدد بحسب المادة المراد تعلمها او تعليمها .

وضمن هذا السياق يرى غاستون باشلار ان تحقيق نجاعة التعليم تتطلب ضرورة الالتزام بمجموعة من الضوابط منها :
–  الخطأ اساس التعلّم : تصور غاستون باشلار للحقيقة جعله يقر من خلال نظريته للتعلم ، ان الخطأ هو اساس التعلم ، ولو الخطأ لما ادرك طالب العلم جادة الصواب والحقيقة العلمية ، لذا يجب على المعلم ان يكون متسامحا مع الخطأ قدر الامكان ، وواجبه توجيه الطالب لتدارك اخطاءه والاستفادة منها، كما ان المعرفة المؤسسة على تصحيح الاخطاء تبقى مرسخة في ذاكرة الطالب وخاصة ان كان منهج المعلّم في التصحيح منهجا سليما يستوفي شروط المهنة وهدفه منح العبرة والموعظة قبل كل شيء .
– تجاوز التوتر لتجنب معيقات عملية التعليم : كما لا يخفى على كل معلم او ملقن للمعرفة ، فمهنة التدريس تتطلب عدم الانفعال والتوتر اثناء تلقين المعرفة، فمحاربة التوتر امر ضروري لكل مدرس ومعلم ناجح في مهنته المقدسة .
–  لا وجود لتعليم دون تربية : التربية عند غاستون باشلار هي الجسر القوي الذي يحقق التواصل بين العقلانية المعلّمة ( الفكرة التي يريد المعلم تلقينها للمتعلم ) وبين المتعلم المتلقي ، فالتربية هي ذاك الاسلوب الذي يحبب للطالب والتلميذ المادة المدروسة ، وبالتالي فان كان اسلوب التدريس سليم ويلتزم بمعايير التربية السليمة فادراك المتلقي للأفكار المعلم تكون اكثر سلاسة وسهولة ، وكلما استطاع المعلّم خلق جسر تواصلي تربوي بينه وبين المتعلم يسهل عليه ترتيب الافكار في ذاكرة المتلقي وبالتالي تحقيق تلقين المعرفة بالطريقة الصحيحة، وهنا يلعب المعلّم دور الاب الروحي أكثير من وقوفه كأستاذ مقدّم للدرس .
– عدم الاكتفاء بالمعطيات المادة المدرّسة :  دائما ما نجد غاستون باشلار يدافع في كل جوانب فلسفته على ضرورة تفتح العقل على محيطه دون الانقياد بزاوية تعلمية واحدة، وفي هذا الاطار يؤكد غاستون باشلار على ضرورة تلقين الاستاذ لطلبته كفايات الانفتاح على المعرفة، ويدع لهم مجالا واسعا للبحث والمناظرة ، حتى يتدربوا على الابداع الفكري والانتاج الذاتي وبالتالي المساهمة في ايجاد حلول للازمات والعراقيل التي قد تواجه المعرفة مستقبلا .