دراسة في الكتابة التاريخية العربية قبل الإسلام

دراسة في الكتابة التاريخية العربية قبل الإسلام
دراسة في الكتابة التاريخية العربية قبل الإسلام

يعتبر حقل التاريخ من أهم الميادين المعرفية التي اهتم بها العرب ودرسوها وألفوا فيها، ويرجع هذا الاهتمام إلى ما قبل الإسلام، وهي المرحلة التي كانت فيها العرب تهتم بالدرجة الاولى بدراسة علم الانساب، وكل قبيلة أو عشيرة تتفاخر بنسبها وأجدادها الاوائل، ناهيك عن اهتمامهم بالتاريخ الشفوي ويبرز ذلك جليا في الاحداث والوقائع التي أشار إليها شعراءهم المشهورين وتوارث تلك الأبيات شفويا من جيل لأخر دون تدوين ماعدا المعلقات الشعرية التي كانت تعلق في باب الكعبة المشرفة، وهذا الركن من التاريخ حضي بعناية كبيرة عند العرب باعتباره إحدى الوسائل التي اعتمدوها لتأكيد هويتهم وإبراز مكانتهم بين الشعوب. 

أما خلال القرن الثالث من الهجرة، انتقل العرب من الثقافة الشفوية المتوارثة إلى مرحلة التدوين والاعتماد عليه كركيزة أساسية للحفاظ على الهوية، مع بدإ وضع خطط مرسومة للكتابة التاريخية وتبيين أساليبها ومنهجها.

{inAds}

أما أثناء القرن الرابع من الهجرة، بدأ علم التاريخ عند العرب تتحدد له معالمه سواء من حيث المادة المصدرية أو المرجعية أو الاهداف أو المنهج، وسار علما مستقلا بذاته كغيره من العلوم الإنسانية الاخرى.

وكان التاريخ عند العرب بداية عبارة عن سرد لأحدث الماضي ظاهريا، لكن مع النخبة الأولى من مؤرخي الاسلام (بالتحديد مع بداية التأريخ العام خلال القرن 4 هـ على يد الطبري والمسعودي وغيرهما) وعزمهم على كتابة تاريخ عام للبشرية منذ بدإ الخليقة إلى عصرهم المعاش، بدأ التاريخ يتبنى نوعا من الموضوعية والمعقولية، حيث كان لزاما على أولئك المؤرخين لبلوغ طموحاتهم المتمثلة في وضع تاريخ كليّ (عام) للبشرية مع مراعاة الصدق والموضوعية في الإطلاع على مختلف الروايات وتعريضها لمبدإ التعديل والتجريح، كوسيلة لتمييز صحيح الروايات عن غيرها الزائفة، ومقابلة المعرفة التاريخية الدفينة في طيات تلك المصادر واستخلاص الاحداث الأقرب إلى الواقع والحقيقة، وذلك بطرح السؤال والكشف عن مكامن الضعف في الروايات التاريخية. 

وهذه الممارسة المنهجية أفرزت ولو بطريقة غير مباشرة فلسفة تاريخية يمكن وصفها بالبدائية، طورتها الأجيال اللاحقة حتى استكمل معظم أسسها على يد كبار مؤرخي الإسلام في أواخر العصر الوسيط، وخاصة على يد العلامة المؤرخ وعالم الإجتماع الفذ عبد الرحمن ابن خلدون (1332-1406م).

{inAds}

الوعي التاريخي العربي قبل الاسلام

لابد بداية أن ننوهه أن عرب قبل الإسلام لم يشهدوا كتابة تاريخية موثقة، بل كان جل تعبيرهم عن أحوال أيامهم المتداولة يحفظ في الذاكرة عبر الشعر على وجه الخصوص، لذلك فأهم ما يميز مرحلة العصر الجاهلي العربي من الناحية الفكرية والمعرفية هو اهتمام العرب بالروايات والقصص الشفوية حول آلهتهم وأنسابهم وشؤونهم الاجتماعية وحروبهم ومعاركهم.

فسميت تلك القصص حول الحروب والمعارك بـ "الأيام"، بينما سميت روايات أنساب قبائلهم بـ "الأنساب"، وعليه تكون الصورة التاريخية في العصر الجاهلي تقوم على أساسين:

{inAds}

1- الأيام

عرفت العرب في الجاهلية نوعا من التاريخ الشفهي، حيث كانت القبائل تروي أيامها وحروبها وانتصاراتها، لتتفاخر بها بين القبائل الأخرى، سواء كان ذلك شعرا خالصا أو نثرا تتخلل الأشعار، ولم تكن الصلة واحدة دوما بين الشعر والنثر في الأخبار، فأحيانا يكون النثر شرحا للقصيدة وأحيانا أخرى يكون الشعر مرتجلا على لسان أحد أبطال الخبر دون أن تربطه صلة بالخبر المنثور.   

وما يمكن تسجيله عن قصص الأيام أنها مرتبكة من ناحية التوقيت،  وهي على العموم لا تخلو من العصبية، ثم أنها ينقصها التآلف والسّبك، ومع ذلك فإنها تحوي بعض الحقائق التاريخية الهامة.

وعلى العموم فـ "الأيام" صارت جزءا من الأخبار التاريخية، كما أنّ ورود الشعر فيها جعلها موضع اهتمام اللغويين والنسابين والمؤرخين (مثل أبو عبيدة، ابن الأثير، ابن قتيبة، المدائني، الأصفهاني صاحب الأغاني، وابن عبد ربه)، ويرى حاجي خليفة أن "الأيام" لابد أن تكون فرعا من التاريخ حيث يقول: "علم أيام العرب هو علم يبرز الوقائع العظيمة والأهوال الشديدة بين قبائل العرب، لذا يجب أن يكون هذا العلم فرعا من فروع التاريخ".

وأهمية روايات "الأيام" تكمن أيضا في استمرارها في صدر الإسلام، وبأسلوبها القصصي المعروف، وبطريقتها السردية التي يختلط فيها النثر بالشعر، وظلّ هذا النوع من الكتابة منتشرا في الأوساط القبلية على وجه الخصوص.

{inAds}

2- الأنساب

أما بخصوص روايات الأنساب، تبلورت إلى الوجود بفعل حِفظ كل قبيلة لنسبها وتوريثه للأجيال الصاعدة حتى تظّل نقية وبعيدة عن تأثرها بعادات وتقاليد القبائل المجاورة، وبذلك ضمان تميّزها وحماية هويتها القبلية من أخطار الاندماج وتغلب القبائل والأجناس الأخرى التي تحيطها عليها، فكانت كلّ قبيلة تعنى بالأنساب عناية كبيرة وتعتبرها أصل تاريخها (رغم ما كانت تتضمنه من خرافات وأساطير).

فقد كان المهتمون بـ "الأنساب" يحفظون معلوماتهم عن ظهر قلب، وأي نسب إن لم يفوّض له من يحتفظ بمعرفته يفقد أهميته ويبقى منسيا، ولذلك فالمؤلفات عن النسب تبدأ في الظهور عندما تصبح شجرات النسب محلا للشّك فيشعر الناس أن  تدوينها في كتاب قد يساعد على إزالة الشكوك ومنع التزوير.

ومع ذلك فـ "الأنساب" لم تكن لها أهمية أكبر كمثل التي حظيت بها "الأيام" كشكل من أشكال التعبير التاريخي، غير أنها تحمل دلالة أكثر تعكس وجود الإحساس التاريخي عند الإنسان العربي في عصور ما قبل الإسلام.

{inAds}

خلاصة

بالإضافة إلى قصص "الأيام" وتراث "الأنساب"، لم يغفل عرب الجاهلية بالاهتمام بأخبار الأمم المجاورة (مثل الفرس والرومان) رغم ما كانت تكتنفه هي الأخرى من خرافات وأساطير، إلا أن عرب الجاهلية - من خلال ذلك - يتبين أنهم لم يكونوا منعزلين تماما عن أخبار الأمم القوية التي تحيطهم، بل عملوا قدر المستطاع في نقل أخبار تلك الأمم وأحوالها، وظهر ذلك جليا في المراحل الأولى من ظهور الإسلام حينما احتدم الصراع بين أمة الإسلام وتلك الأمم (الفرس والرومان على جه التحديد) حول بسط السيطرة على مناطق شبه الجزيرة العربية، كان قادة الجيوش الإسلامية الأوائل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم على علم ببعض أخبار تلك الأمم والدول مما سهّل عليهم وضع خطط لمواجهتها.

{inAds}  

ومنه فالكتابة التاريخية في فترة ما قبل الإسلام تتحدد معالمها في مجال القبيلة المحافظة على تقاليدها وأعرافها، فبالرغم ما كانت تتمتع من فكر مشوش ومحدود عن الوقت، إلا أن التاريخ بالنسبة لها عبارة عن حوادث كبرى تتخذها عادة بدايات للتأريخ أو التوقيت، وحين تأتي حادثة مهمة يهمل ما قبلها ويؤرخ بها.

إقرا ايضا: ملخص تاريخ بلاد الإغريق (ملخص شامل)

وكانت القبائل العربية في الجاهلية في بعض الأوقات والأماكن (مثل الحيرة ومكة) على صلة بثقافات أخرى، إلاّ أن اهتمامها اقتصر أكثر على شؤونها الخاصة، مما جعلها متقوقعة على ذاتها غير منفتحة ومتأثرة بمحيطها الخارجي.

ولم تترك عرب  الجاهلية أدبا مكتوبا، فهي فترة ثقافية شفوية، الأمر الذي ساعد في استمرار الاهتمام بـ"الأيام" و"الأنساب" في ما بعد الجاهلية، وإلى بقاء أسلوب "الأيام" في الرواية السردية وهو أسلوب القصص الشبه التاريخية.